تصاعدت حدة المناقشات حول الحجاب الإسلامي بالمدارس الفرنسية بعد تنصيب لجنة رئاسية للنظر في "تطبيق أحسن للعلمانية" يرأسها الوسيط برنارد سطازي المقرب من الرئيس جاك شيراك. وموازاة مع أشغال اللجنة وهي تستمع لتدخلات المختصين والمعنيين بالأمر, وفي الوقت الذي تبث فيه النقاشات على شاشة قناة برلمانية عامة؛ يحتد النقاش على أعمدة الصحافة المكتوبة بين المؤيدين لمنع الحجاب بقانون خاص والمعارضين له. ولا تخلو صحيفة فرنسية يومية أو أسبوعية, ولا مجلة شهرية أو فصلية, من مقال يطول أو يقصر لهذا الفريق أو ذاك. وفي صلب النقاش تحشد المصطلحات القدحية وتحشر الجماعات الإسلامية يركز بعض المغرضين على أحداث متفرقة لمواجهة الصحوة الإسلامية في عقر دارها. بل يتحول الأمر عند طائفة من الباحثين والكتاب إلى مواجهة بين الإسلام والعلمانية, مواجهة من طرف واحد هو العلمانية رغم أن المسلمين في البلدان الأوروبية عامة, وفرنسا خاصة لا يجدون أي مشكل من العلمانية, وأكثر من ذلك يعتبرونها حامية وضامنة لحقوقهم. ومتابعة لهذه القضية المثيرة المدهشة نعرض لما جاء في بعض الصحف الفرونكوفونية مثل "لوفيغارو" و"لوكورييه أنتيرناسيونال" و"لوموند" و"ألتيرناتيف أنتيرناسيونال" وهي صحف ومجلات فرنسية و و"لاليبر بيلجيك" وهي صحيفة بلجيكية.
1989 سنة إسلامية!
"1989 سنة إسلامية" هذا عنوان فقرة من كتاب "الجمهورية والإسلام" للباحثة الفرنسية "ميشيل تريبالا"(مديرة أبحاث بالمعهد الوطني الفرنسي للدراسات الديمغرافية, وسبق لها أن كانت عضوًا بالمجلس الأعلى للإدماج برفقة صديقتها جان هيلين كالتينباخ التي اشتركت معها في إنجاز الكتاب المذكور). وآخر سنة من ثمانينيات القرن الماضي اعتبرت إسلامية لكثرة قضايا الحجاب في فرنسا وأوروبا وتركيا. وتلك سنة التهبت فيا فرنسا وأوروبا بصدى الثورة الإيرانية، وظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر وانفجار "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي وتحول كثير من شباب ضواحي المدن الفرنسية نحو الإسلام. وفي خريف تلك السنة تفجرت قضية الحجاب بفرنسا واحتلت كل شاشات التلفزيون الفرنسي رغم انشغال أكثر من 53% من الفرنسيين بانهيار حائط برلين وسقوط المعسكر الشيوعي وإسقاط الطاغية الشيوعي الروماني تشاوشسكو (22 دجنبر 1989). بدأ الانفجار في جريدة "لوكورييه بيكاريو" في 3 أكتوبر بعد أن أقدمت إدارة ثانوية دوكريي على طرد ثلاث تلميذات محجبات, لتتوالى الأحداث من بعد ذلك ابتداء من أسر التلميذات وانتهاء بسيدة فرنسا الأولى يومذاك "دانييل ميتيران" زوجة الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران, مرورًا بجمعيات مناهضة للميز العنصري وجمعيات مسلمي فرسا مثل التبليغ واتحاد المنظمات الإسلامية والفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا. ومنذ ذك التاريخ وقضية الحجاب تسخن وتبرد حسب درجة حرارة الأحداث, إلى أن جاءت قضية تمثيلية المسلمين وتنظم أنفسهم لتعيين مخاطب للحكومة. وما أن قبل المسلمون هذه الفكرة وتوجهوا نحو تشكيل "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" حتى احتد النقاش من جديد وصوب الإعلام, المكتوب أكثر من غيره, النظر والكتابة نحو "الحجاب".
شعور بالخيانة
في مقال ظهر يوم 24 شتنبر في يومية "لوفيغارو" الفرنسية كتبت ميشيل تريبالا تشرح لماذا يحتد النقاش حول الحجاب الإسلامي بفرنسا أكثر من غيرها. وأوضحت أن الإجابة عن هذا السؤال مستحيلة من دون جولة تاريخية تعيد رصد المواجهة الحادة بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة وكيفية حلها. وقالت الكاتبة عن هذا الأمر: "أنجزت العلمنة بطريقة عنيفة وقوانين 1901 و1905 أبرزت معارضتها للكنيسة, فقانون 1901 يلزم الكنيسة بأن تحصل على موافقة من الدولة من أجل وجودها(...) ثم انتزع منها الإشراف على القوانين المدنية والمدرسة التي أصبحت ضدها فيما بعد". وإذا كان النزاع قد انتهى بين الطرفين وحل السلم؛ فلأن الكنيسة أخذت بالضربة القاضية وخضع الفرنسيون للعلمانية الغالبة وقوانينها, وتخرجوا من المدرسة التي تكفلت بهذا الأمر وأفرغت من كل مظاهر التعبير الديني.
وعلى الرغم من أن مجلس الدولة قد أصدر قرارًا حول ارتداء الحجاب في المدرسة بعد طلب من رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق ليونيل جوسبان, فإن الباحثة تعتبر سلوك الوزير مناورة تجنب بها أن يكون في الصدارة, كما تعتبر قرار مجلس الدولة -الذي أقر أن ارتداء العلامات الدينية لا يضر بالعلمانية في شيء- قرارًا يحرف العلمانية عن موضعها ومعناها. وتتحدث الكاتبة باسم الفرنسيين أجمعين معتبرة أنهم شعروا بالخيانة عندما حُرِّف معنى العلمانية ليسمح لمظاهر التعبير الديني أن تحتل المجال العام والمجال المدرسي, وذلك ما استفاد منه الدين الإسلامي وحده, في وقت كان عملية استئصال التدين من المدرسة قد تمت على حساب الكاثوليكية. وتستحضر الكاتبة حيوية الإسلام وصحوته في مقابل حال الكنيسة المعلوم وتدرك أن الكفة مائلة لا محالة للأول, فتعبر عن ذلك قائلة بالحرف: "لا يفهم الفرنسيون لماذا طلبت منهم تضحيات كبيرة لما تعلق الأمر بالكنيسة, في حين لا يطلب الحد الأدنى من الإسلام عندما يأتي دوره. المبدأ الجميل للعلمانية الذي تربوا على احترامه لم يكن سوى وصفة لإسقاط الكنيسة ليس إلا". وليست الخيانة مقصورة على مجلس الدولة في نظر الكاتبة, بل تتهم السياسيين أيضا بخيانة الفرنسيين بتخليهم عن مسؤولياتهم وتورد لهم مواقف وتصريحات دافعوا فيها عن حرية التدين أو اتخذوا موقفًا محايدًا.
وتعرب تريبالا عن تخوفها من تكرار ما حدث سنة 1989 وتتمنى أن يتغلب السياسيون على مجلس الدولة، وألا يكلوا له النظر في النازلة من جديد, كما تتخوف من اللجنة الرئاسية المكلفة بمناقشة الموضوع التي توشك أن تخنق النقاش السياسي حسب تعبير الكاتبة. والحل في تقديرها هو توسيع النقاش حول الشخصية الوطنية الفرنسية وهضمها للعلمانية, وردت على الذين يقولون إن قانونًا يمنع الحجاب سيكون تمييزيًا ضد المسلمين لأنه سيطبق على الفتيات المحجبات فقالت: "العكس هو الصحيح, إذا كان المسلمون معنيين بقانون مثل هذا, فلأن كل الآخرين انتهوا إلى الاستسلام لقوانين اللعبة, وإذا ما تخلينا عن هذا ظلم عظيم للفرنسيين غير المسلمين الذين قبلوا الخضوع لهذه القاعدة العامة، والتي لا يمكن أن يسثنى منها القادمون الجدد.
عاصفة مصطنعة
وتحت هذا العنوان كتبت (غيه سورمان) - كاتبة فرنسية من مؤلفاتها "أبناء رفاعة: مسلمون عصريون"- في اليوم نفسه والجريدة ذاتها. وافتتحت كلامها بالتحذير من إصدار قانون يمنع الحجاب الإسلامي لأن قانونا كهذا سيكون في مصلحة الإسلاميين الذين سيجلبون الفرنسيين إلى رؤيتهم الخشنة للإسلام, وما لبثت أن تساءلت عن مدى جدوى وضرورة قانون يمنع إظهار كل علامة دينية في المدرسة. وقبل أن تسترسل في الإجابة أشارت الكاتبة إلى قلة التلاميذ الذين يظهرون علامات دينية في المدارس، وأن الأغلبية يفضلون العلامات الأمريكية الرياضية. ثم تساءلت عن تعريف العلامات الدينية: وانطلاقا من أي عتبة يمكن اعتبارها منتهكة للعلمانية؟ والحلي على شكل صلبان هل هي دينية أم تنتمي للثقافة الفرنسية التقليدية؟ ونجوم داوود؟.. والكيبا؟.. وما القول في اللحية المماثل المذكر للحجاب هل سيمنع هو الآخر؟.. وهل سيزود رؤساء المؤسسات بآلات تكشف لهم عن العلامات الدينية؟ وهل سيلزمون بحفظ علامات الديانات المعروفة والطوائف الدينية والأحزاب السياسية؟ وإذا تصورنا منع الحجاب الإسلامي وحده فسوف يكون ذلك إجحافا, فهل سيقبل رؤساء المؤسسات أن يضيفوا إلى واجباتهم الكثيرة أن يكونوا رجال شرطة للعلمانية؟.
وحذرت الكاتبة من سقوط الحكومة في حبائل أقلية من العلمانيين المتطرفين الذين يريدون استعادة أمجادهم الغابرة عندما كانوا يواجهون الكنيسة وأنهم اليوم يستغلون "التطرف المزعوم" بتعبير الكاتبة, للتخويف واسترجاع الحيوية والشباب. كما أكدت الكاتبة أن قانون المنع موجود, وأنه معمول به, فلمصلحة من ينادي المنادون بسن قانون مانع جديد؟.
وحذرت الكاتبة أيضًا من الآثار العكسية التي ستحدث لا محالة في حالة القانون المانع, وذكرت أن كثيرًا من الناس لا ينتظرون سوى صدور هذا القانون لشن حملة على فرنسا و"تمييزها" وسينضم إليهم الكثير من المتشددين ومن الشبان تعاطفًا واستجابة لجذر الهوية وأن صعوبة الاندماج ستزداد. وأقرت هي الأخرى بأن عدد المحجبات ضعيف, وأن المنع سيضاعف عددهن. وتختم الكاتبة مقالها بتحديد القضية الرئيسة الحقيقية التي يجب على الحكومة الفرنسية الاعتناء بها, ألا وهي إدماج العرب والمسلمين عن طريق برنامج اجتماعي وسياسي وثقافي يجنب فرنسا كلاًّ من التطرف الديني والتطرف العلماني.
قضية أمينة لاوال النيجيرية
واهتمت الصحافة الغربية اهتمامًا خاصًا بقضية (أمينة لاوال) النيجيرية إثر إطلاق سراحها من لدن محكمة نيجيرية إسلامية, وعبرت عن سعادتها بهذا الحدث الذي أنقذ حياة المرأة من موت محقق بعد أن كانت محكمة أخرى قد حكمت عليها بالرجم بسبب زناها. الصحيفة الإسبانية "أ-ب-س" الصادرة في مدريد أعربت عن قلقها من "التطرف الديني" الذي ينتشر في نيجيريا. واعتبرت الصحيفة أن (أمينة لاوال) أصبحت رمزًا للمرأة المسحوقة من لدن الوزن الضخم للتقاليد الدينية الإسلامية, غير أن العالم المتحضر استطاع إنقاذها. وأضافت تلك الصحيفة أن هناك أمينات أخريات مجهولات يعانين من القهر والظلم, وأنه لابد من البحث عنهن وإبقاء الضغط مستمرًّا لإخراجهن من معاناتهن. وعلى النغمة ذاتها سارت كل من جريدتي "الباييس" و"إلموندو" الإسبانيتين وصحيفة "لاليبر بيلجيك" البلجيكية و"دوتش زيتونغ" الألمانية. وإذا كانت الصحف النيجيرية قد جعلت من هذا الحدث موضوع صفحاتها الأولى؛ فإنها كانت أكثر موضوعية وإنصافًا من الصحافة الغربية المتحاملة غالبًا على أحكام الشريعة الإسلامية وعلى حقوق كثير من الشعوب الإسلامية كالشعبين الفلسطيني والعراقي, فالحكم على امرأة في نيجيريا قضية يقام ويقعد لها, ولكن قضية فلسطين أو العراق, وكثير من المظلومين لا تحظى بنفس الاهتمام والرعاية, فالأولى "جريمة" لا تغتفر, والثانية مسألة فيها نظر.
خلاصة
لا تخطئ عين المراقب أن اهتمام الصحافة الغربية بأوضاع المرأة المسلمة يندرج في سياق التحولات الكبرى التي تعرفها البشرية بعد أن دخلت في زمن العولمة. زمن تتواجه فيه الأنظمة الثقافية الغربية والإسلامية سلمًا وحربًا, ويتخوف فيه الغربيون من علو صحوة المسلمين ونضجها وعالميتها وقدرتها على هضم الحضارة الغربية واستيعابها كما وقع من قبل عندما تجاوزت حضارة المسلمين ثقافات متعددة وغزوات ضارية. ويبدو أن المشهد يتكرر من جديد على مهل ولكن بفعالية.
مع تحيات منتديات نوردين المتطورة