كتبه الشيخ ياسر برهامى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالخوف إما خوف عبادة، وإما خوف طبيعة وعادة.
خوف العبادة:
الخوف تارة يقع عبادة حين يكون خوف تأله، وهو خوف سريٌّ يدعو إلى طاعة باطنة، أي: من داخل الإنسان، أما الطاعة الظاهرة فمثل الخوف من شخص يحمل عليك مسدسًا ويقول: "تحرك أمامي"، أو يحمل سوطًا أو عصا ويقول: "أطعني"، فهذا خوف ظاهر، ويدعو إلى طاعة ظاهرة، أما الخوف السري فهو في الباطن، ويدعو إلى طاعة باطنة، ويتقرب بهذا الخوف إلى من يخاف، فصرفُ هذا النوع لله من أعظم واجبات الإيمان، وصرفه لغير الله شرك أكبر مخرج من الملة.
وصرف هذا النوع لغير الله -عز وجل- كأن يخشى صاحب القبر أن يوقع به مكروهًا، أو يغضب عليه، أو يسلبه نعمة، كما هو واقع في عُبَّاد القبور، وكذا الخوف من الجن مع التقرب إليهم، ويقول قائلهم: "حتى لا يغضب السادة"، ويتقرب إليهم، مع الخوف منهم، فيذبح وينذر ويسجد لهم، أو يهين المصحف تقربًا إلى الجن بما يشاؤون، فهذا خوف باطن؛ لأن الجن غيب.
ويُخشى من تخويف الأولاد بالعفاريت؛ لأن ذلك ربما يؤدي في الكِبَر إلى ذلك الخوف السري، وقد يُعفى عن الطفل ولا يُعفى عن الكبير، لذلك من الخطر الكبير أن يُربى الطفل على الخوف من الظلام أو وجود العفاريت، مع أننا نوقن بوجود هذه المخلوقات، لكنها ضعيفة عاجزة لا تملك شيئًا، بل هي التي تخاف من الإنسان المؤمن، وتسلك فجًّا غير فجِّه وطريقًا غير طريقه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ) (متفق عليه)، وفي الحديث: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعلى حسب درجة إيمان العبد يكون خوف الشيطان منه، فكل إنسان مؤمن له نصيب من ذلك، وليس عمر -رضي الله عنه- فقط، فالشيطان يخاف من أهل الإيمان.
وانظر إلى خوف الكفرة من المسلمين رغم ضعفهم؛ لتعرف خوف شياطين الجن منهم؛ فالجن أكثر هلعًا وأكثر خِفَّة في العقول، فأنت ترى المسلمين ضعافًا جدًّا والكفار في رعب عظيم رغمًا عنهم، والمسلمون أعداد محدودة وليس بأيديهم قوة، والعالم كله في خوف شديد منهم، فما بالك بخوف الجن؟
ومن خوف التأله كذلك أن يخاف الإنسان من أصحاب القبور، فيتقرب إليهم، ويظهر لهم الذل والخشوع، ويَحْذَرُهم أن يسمعوا منه ما يكره، وقد حكى لي أحد الإخوة أنه ذات مرة جاء إلى امرأة عند قبر من يسمونه سيدي بشر، وهي تقول: "حدث كذا وكذا"، وتشتكي له، وتطلب منه، فقال لها: "سيدي بشر هذا عبد مثلك، لا يملك لك شيئًا"، فقالت له: "اسكت؛ حتى لا يسمعك فيؤذيك"، فهي متصورة أنه يسمع الصوت المرتفع دون المنخفض، وهذا نتيجة الخلل العقدي، فهذا من خوف العبادة.
خوف الطبيعة والعادة:
وتارة يقع الخوف طبيعةً وعادةً، كمن يخاف من عدو أو سبع أو أي خطر، كمن رأى سفينته تغرق، أو من رأى حريقًا، فهذا ليس بعبادة، ولا ينافي الإيمانَ وقوعه في القلب ابتداءً، ويمكن أن يقع ابتداءً في القلب، لكنه لا يستقر فيه، وكما ذكرنا أنه يمكن أن يقع في قلوب الأنبياء والأولياء، ولكنه لا يستقر، بل يذهب بالتوكل واللجوء إليه سبحانه، ولا يترتب عليه ترك واجب أو فعل محرم، فلا يترك الواجبات أو يفعل المحرمات لأجل هذا الخوف، كما قال -تعالى- عن موسى وهارون -عليهما السلام-: (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى . قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه:45-46)، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا خاف قومًا قال: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فأما إذا أدى هذا الخوف الطبيعي إلى ترك واجب أو فعل محرم من غير إكراه فهذا خوف محرم.
أما من فعل المحرم أو ترك الواجب عند الإكراه المعتبر شرعًا فإنه معذور؛ لأن الله -عز وجل- قال: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (النحل:106)، لكن هناك فرق بين الخوف والإكراه؛ فليس كل خوف يكون إكراهًا؛ لأن كثيرًا من الناس يتوهم أن كل خوف يكون إكراهًا، وقد ذكر العلماء شروط الإكراه.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وشروط الإكراه أربعة:
الأول: أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزًا عن الدفع، ولو بالفرار.
الثاني: أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
الثالث: أن يكون ما هدده به فوريًّا، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غدًا؛ لا يعد مكرهًا، ويُستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًّا، أو جرت العادة بأنه لا يخلف.
الرابع: أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره" "فتح الباري 12/311 ط. السلفية".
لأنه يمكن أن يظل إنسان خائفًا طوال حياته؛ لأن أعداءه قد عرفوا مكانه أو اسمه، فيترك الصلاة، بل حتى يخاف أن يحمل المصحف لمجرد السؤال عن اسمه، فيترك الواجب، فلا يصلي في الجماعة، ولا يطلب العلم، ولا يدعو إلى الله، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن منكر، ويترك الجهاد الواجب، فيظل خائفًا، مع أنه لا يغلب على الظن وقوع المكروه، فلم تتحقق شروط الإكراه المعتبرة.
وكذلك الذى يفرُّ من الزحف مع كونه معه السلاح، ولا يغلب على ظنه حصول الهزيمة، فهذا ترك واجبًا بغير إكراه، فهو مذموم محرم؛ لأن الله نهى عنه، قال: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:175).
وقد يصل هذا الخوف به إلى الكفر لو أدى إلى أن يفعل الكفر إرضاء لمن يخاف منهم أو هربًا منهم دون إكراه، مثل قصة الرجل الذي قرَّب ذبابًا، فعن طارق بن شهاب قال: قال سلمان -رضي الله عنه-: "دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب"، قالوا: "وما الذباب؟"، فرأى ذبابًا على ثوب إنسان، فقال: "هذا الذباب"، قالوا: "وكيف ذاك؟"، قال: "مر رجلان مسلمان على قوم يعكفون على صنم لهم، فقالوا لهما: قرِّبا لصنمنا قربانًا، قالا: لا نشرك بالله شيئًا، قالوا: قربا ما شئتما ولو ذبابًا، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى؟ قال أحدهما: لا نشرك بالله شيئًا، فقُتل، فدخل الجنة، فقال الآخر بيده على وجهه، فأخذ ذبابًا، فألقاه على الصنم، فدخل النار" "رواه أحمد في "الزهد" وابن أبي شيبة موقوفًا".
فهذا كان خوفًا من غير إكراه؛ لأنه لم يُعرَض على القتل، بل بمجرد طلبهم قرَّب؛ إذ كان قلبه غير مطمئن بالإيمان، كمن سبَّ الدين ليعلم الناس أنه ليس بملتزم، فينجو من بعض الظالمين الذين يخافهم رغم أنهم لم يطلبوا منه ذلك، وكمن يخاف من أحد ويظن أنه يمكن أن يرضيه بالكفر بالله -عز وجل- فيدفعه ذلك إلى الكفر، وكمثل الذين قال الله -عز وجل- فيهم: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لاتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا) (الأحزاب:14)، فالخوف المحرم إذا أدي الكفر بدون إكراه فإنه يكون كفرًا.
وإذا كان الخوف بلا سبب أو سببه ضعيف فهو مذموم، كمن يخاف الظلام أو يخاف شيئًا ليس له ضرر أو ضرره يسير، والجبن من الأخلاق الرذيلة التي تعوَّذ منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالجُبْنِ وَالْبُخْلِ) (متفق عليه).